يبدو الأمر مختلفا، هكذا بدأ يشعر كل واحد منا هذه الأيام في كل مايتعلق العيش مع الجماعة، أوحتى مع الأصدقاء، كل واحد يفكر بنفسه ولا مجال للإهتمام أو مراعاة لظروف الآخر، الآخر مجرد عابر سبيل، نشتغل معه بحذر شديد، ونحاوره في أشياء ضيقة جدا، وقد نشاركه في أشياء خاصة جدا، ونحن نتكتم فوق العادة على كل شيء، إنه نظام جديد من العلاقات الاجتماعية يعيشه الإخوة قبل الأصدقاء والجيران والأهل والأحباب، عنوانه كن حذرا أكثر من اللازم من أجل أن تنجو بنفسك.
الآن، كل واحد منا يميل إلى العزلة هربا من سؤال الآخر، من جحيم أسئلته وملاحقته لشؤونه الخاصة، إنه يحاول أن يخفي مشاكله الكبيرة، ربما خصامه مع عائلته، أو ربما مع زوجته، أو ربما مشكل الجنس الذين يعاني منه في بداية حياته أو حتى في مقتبل العمر، أو ربما يحاول أن يداري وضعيته المادية حتى لايكشف عن مشكل سداد ديونه، الديون أصبحت هما مشتركا بين الجميع، لكنها تتفاوت بين شخص وآخر ولهذا فالعديد يحاول أن يتناسى هذا الهم الذي يقض مضجع الجميع ولو بنسب متفاوتة لكنها خطيرة جدا على البنية النفسية والاجتماعية للأفراد.
الآن الكل يخاف من الكل، من العين اللعينة، من الأسئلة المحرجة، من الحسد القاتل، الكل يخاف من السقوط، والكل يخاف من شماتة المبعدين أكثر من المقربين، والكل يلوم الكل ،إنها حالة من الرعب يعيشها المجتمع فيما بينه، وأي شخص تسأله لماذا هذا الخوف وهذا الحذر الكبير يجيبك في الفور وبدون أن يفكر: العين حق، وبنو آدم خطير، ولعل هذا الجواب الذي ينطوي على بنية نفسية لمجتمع هش ولا يثق في نفسه ويعتقد اعتقادا راسخا أن الآخر هو مصدر زوال النعمة وربما قتلها.
إن الحذر الشديد الذي تحول في الآونة الأخيرة إلى عقيدة يؤمن بها العديد من الأفراد والخطير أنهم يدافعون عنها بشدة سواء عن جهل أو تسرع أو عن دفاع عن القيم ، وبصراحة لا أعرف مانوع هذه القيم المكتسبة التي جعلتهم يعتقدون كل هذا الاعتقاد الراسخ لهذا التوجه والدفاع عنه، وفي نظري المتواضع فإن هذه الوضعية المتعفنة التي يعيشها المجتمع في الآونة الأخيرة مردها غياب المعرفة، وأقصد بالمعرفة، الثقافة المضادة التي يكتسبها الفرد عن طريق البيت من خلال التربية أو المدرسة أو المسجد أو الجامعة أو عن طريق الإعلام الثوري وأقصد بالثوري الذي ينقل المادة الثقافية التي تساهم في بناء الذوق وتنمية الشخصية التي تسأل وتفكر وتحاور ولها الجرأة في مناقشة كل المواضيع بدون خوف أو خجل أومهادنة، وهذا مايدفع لصناعة مجتمع له حصانة فكرية وله رأي وموقف وليس مجتمع ببغائي وتابع ولا يستطيع أن يقول كلمته، وفي كل الأحوال فعندما يصبح المجتمع لاينتج معرفة المقاومة لكل الانحرافات التي تصاحبه فهو لامحالة تحول إلى مجتمع معاق ومشلول ولما لا مجتمع تافه، ويتقبل كل شيء ببلادة متخمة، وهذه هي السقطة الكبرى التي لايشعر بها إلا بعد فوات الأوان وهو يعتقد بهذا الجهل الكبير أنه يحمي نفسه من الآخر، الجحيم.