بمجرّد ما أُعلن عن فكرة القطار فائق السرعة بالمغرب، سنة 2007، اشرأبّت الأعناق نحو هذا المشروع الضخم غير المتوقع، وارتفعت فوق الرؤوس علامات الاستفهام الحائرة: هل حقا يحتاج المغرب هذا المشروع؟ هل يستحق أن تبذل من أجله ميزانيات ضخمة؟ أي إضافة سيقدم في مجال النقل؟ لم لا تستثمر الأموال المرصودة له في عشرات المشاريع الأخرى؟
مول المغرب 28 بالمائة من المشروع، بينما مولت فرنسا 51 بالمئة منه بواسطة قروض مختلفة، وتوزعت 21 بالمئة المتبقية بين صناديق عربية (السعودية والكويت والإمارات)، بحجم استثمارات إجمالي قارب تعبئة استثمارات ناهزت 22,9 مليار درهم.
لكن هذه التساؤلات عموما لم تأت من فراغ، خصوصا أن سمعة المكتب الوطني للسكك الحديدية، الذي سيشرف على تشغيل "البراق" (وهو الإسم الذي اختير للخط السريع) كانت في الحضيض حينها بسبب مواعيد القطارات التي لا تحترم، وحالة العربات المتهالكة، وعيوب أخرى كثيرة لم تنفك التقارير الصحافية تتناولها.. فكيف بخط سريع إذن؟
وفي سنة 2011، عندما أعلن الملك محمد السادس، رفقة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، عن إطلاق إعطاء انطلاقة أشغال إنجاز الخط فائق السرعة فعليا، والذي سيربط طنجة بالدار البيضاء، مرورا بالقنيطرة ثم الرباط، كان واضحا أن التراجع لم يعد ممكنا، وأن المشروع سينجز فعلا. فهل تصدق المخاوف الشعبية حقّا؟
مدة الإنجاز.. مزيد من التخوف
انطلقت إذن أشغال إنجاز الخط وصل تواصل المخاوف والانتقادات، والتي عزّزها أن الأشغال لم تسرْ بالوتيرة المرتقبة، حيث كان من يُفترض افتتاح الخط عام 2015، لكن الخلافات على نزع ملكية الأراضي الخاصة والعامة أخرت ذلك إلى غاية 2018.
وطيلة هذه المدة كان السؤال الأهم، بعد أن تمّ الحسم في إنجاز المشروع، هو: هل ستكون أسعار تذاكر القطار في متناول أبناء الشعب، أم الطبقة المتوسطة، أم لعلّه للطبقة المخملية فقط؟
ورغم أنه، خلال مرحلة تنفيذ الأشغال، مكن المشروع من خلق 30 مليون يوم عمل مباشر وغير مباشر، فإن ذلك لم يبدُ شفيعا للمشروع.. ولو إلى حين.
خلال هذه الفترة، تفقد الرئيس الفرنسي آنذاك فرنسوا هولاند، خلفاً لساركوزي، ورشة إنجازه عند زيارته المملكة سنة 2015. وشملت هذه الورشة الضخمة مجالا معرضا لمخاطر اهتزازات زلزالية تتخلله مناطق تضم بركا مائية وأخرى تهب فيها رياح قوية.
إلى ذلك، تضمنت الأشغال 67 مليون متر مكعب من الحفر والردم، وبناء 12 جسرا يمتد أطولها على مسافة 3,5 كيلومتر، فضلا عن 169 قنطرة طرقية و117 منشأة هيدرولية.
إطلاق المشروع.. الترقب
حانت لحظة الحسم إذن، وأشرف الملك محمد السادس، رفقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في شهر نونبر 2018،على تدشين قطار البراق الفائق السرعة، كما تم تدشين محطات خاصة بالقطارات فائقة السرعة وهي محطة الرباط أكدال ومحطة طنجة المدينة ومحطة القنيطرة ومحطة الدار البيضاء المسافرين.
الآن جاءت لحظة الحكم، واشتد تحديق العيون في الأرقام التي ستتألق فوق التذاكر، مع إجماع شعبي على أن الأثمنة ستكون صاروخية، لكن الحقيقة والواقع خالفا كل هذا، ووجد المغاربة أنفسهم أمام وسيلة نقل غيّرت نظرتهم للتنقل، دون مبالغة.
الفعالية والدقة.. الصمت
بخصوص الأسعار، فقد كانت و لا زالت في متناول الجميع نظرا الخدمة عالية الجودة التي يقدمها البراق، فهي تتراوح عموما بين 100 إلى 300 درهم، وفق الوجهة والدرجة التي يختارها المسافر، مقابلَ دقّة لا تختلّ في مواعيد القطارات وجودة في المعاملة والمراقبة والصيانة، إضافة إلى المدة القصيرة التي يقطع فيها البراق المسافات.
فقد أصبحت المدة التي تفصل طنجة عن القنيطرة 50 دقيقة (عوض 3 ساعات و15 دقيقة)، وعن الرباط ساعة و20 دقيقة (عوض 3 ساعات و45 دقيقة)، وعن الدار البيضاء ساعتين و10 دقائق (عوض 4 ساعات و45 دقيقة ).
كما يضع المكتب الوطني للسكك الحديدية رهن إشارة الزبناء الذين يسافرون بشكل كبير أو بشكل يومي على متن قطارات البراق، كالمهنيين والطلاب، مجموعة من بطاقات للإشتراك تناسب إحتياجاتهم.
طبعا، كل هذا كان كافيا كي يصمت جميع المنتقدين، إما اعترافا بخطأهم، أو ترّقبا لما قد يحث لاحقا !
الاستمرارية.. الإشادة
بعد استمرار هذا الأداء الجيد، دون أن يحدث أي تغيير لا في ثمن التذاكر ولا في جودة الخدمة، بدأ الجميع يقر أن النقد السابق لأوانه كان مجرد عبث هذه المرة.
ونقرأ ها هنا رأيا لأحد المتابعين " كان علينا انتظار الإطلاق الرسمي لمشروع القطار فائق السرعة في المغرب، حتى ننتبه إلى أننا نعاني خصاصاً كبيراً في الأقلام التي تفقه في الاقتصاد. هذه إحدى خلاصات تفاعلنا الجماعي مع الموضوع.
لم نحرر ولو تدوينة في ذلك، ولن نحرر شيئاً، ليس لأننا لا نفقه في الاقتصاد وحسب، بل لأن هذا المشروع، يتطلب استحضار مجموعة من المعطيات التي يختلط فيها الاقتصاد بالسياسية وبعض الاجتماع.
مؤكد أننا نُعاني تخمة أو فائضاً في التحليل السياسي، وزد على ذلك سيادة القراءات الاختزالية أو ثنائية "العام زين"، و"المشهد أسود"، ومؤكد أيضاً الأمر مختلف مع التحليل الاقتصادي، حيث الخصاص الكبير الذي نعاني منه، وبالتالي لا يمكن صرف النظر عنه".
التطوير.. متواصل
في يناير 2022، أعلن المكتب الوطني للسكك الحديدية أنه اتخذ خطوة جديدة في إطار التحول الطاقي، وذلك من خلال تشغيله ابتداء من فاتح يناير جميع قطارات “البراق” بالطاقة النظيفة.
وذكر المكتب أنه يعمل على تفعيل انتقاله الأخضر بصفة تدريجية، "إذ يقوم بتعويض 25 في المائة من إجمالي استهلاكه الطاقي بالطاقات البديلة، لترتفع النسبة إلى 50 في المائة سنة 2023، قبل أن يشمل هذا التحول، على المدى المتوسط، مجموع حاجياته".