يعرف الجمهور الرياضي الجزائري الواسع أنّ الملاكمين محمد زاوي ومصطفى موسى هما أول من منح ميدالية أولمبية للبلاد، وكانت من معدن البرونز، خلال أولمبياد لوس أنجلوس 1984، كما يعلم أنّ العداءة حسيبة بولمرقة أهدت الجزائر ذهبيتها الأولى أثناء أولمبياد برشلونة 1992، لكن القليل من يعرف أنّه وقبل قرابة قرن من الزمن كان هنالك رياضي جزائري نال الميدالية الذهبية الأولمبية لأحد أصعب وأشهر الاختصاصات الرياضية؛ وهو بوقرة الوافي ابن مدينة أولاد جلال الصحراوية المُتوّج بلقب سباق الماراثون لأولمبياد أمستردام في عام 1928.
وسنتعرف من خلال هذا المقال على المشوار الرياضي وحياة بوقرة المليئة بالمفارقات والأحزان والتي انتهت بوفاته مقتولاً بالرصاص بالعاصمة الفرنسية باريس.
وُلد في صحراء الجزائر وشارك في الحرب العالمية الأولى
وُلد أحمد بوقرة الوافي يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول 1898 بمدينة أولاد جلال بصحراء الجزائر، أي خلال تواجد بلاده تحت نير الاستعمار الفرنسي، وقد أجبر على أداء الخدمة العسكرية الفرنسية ضمن كتيبة "السنغاليين" المعروفة بشراستها في الصفوف الأولى للجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى.
وبعد نهاية الحرب في عام 1918، ونهاية خدمته العسكرية الإجبارية، تم تجنيد بوقرة بشكل رسمي ضمن الجيش الفرنسي على الحدود الألمانية، وقد اكتشف مسؤوله الأول، الملازم "فاكير" قدراته البدنية الكبيرة في رياضة الجري، فقرر إرساله في عام 1923، إلى العاصمة باريس لتمثيل كتيبته في إحدى البطولات الرياضية العسكرية، حيث لم يخيب الآمال وتألق بشكلٍ لافتٍ.
بعد تألقه في المسابقات الرياضية العسكرية، انضم بوقرة الوافي لنادي "باريس جان بوين" لألعاب القوى، حيث شارك في شهري مايو 1924 في سباقات الـ15 كلم والـ25 كلم والـ30 كلم، واحتل في كل مرة مركز الوصافة وراء البطل الفرنسي جان بابتيس مانهيس، لكن في سباق الماراثون للبطولة الفرنسية، تفوق الوافي على غريمه، فتم اختيار كليهما لتمثيل فرنسا في ماراثون الألعاب الأولمبية التي جرت في نفس العام بباريس.
وخلال أولمبياد باريس 1924، احتل الوافي المركز السابع لسباق الماراثون بتوقيت ساعتين و54 دقيقة و19 ثانية، بفارق 13 دقيقة عن الفائز، الفنلندي ألبين ستينرووس، أما الفرنسي مانهيس فقد أنهى السباق في المرتبة الـ12.
وبما أنّ الرياضة الأولمبية في ذلك الوقت كانت عبارة عن هواية وليست احترافاً، فإنّ النتيجة الجيدة التي حققها بوقرة الوافي لم تمنحه أي مكافأة مادية من مسؤولي الرياضة الفرنسية، كما لم تمنحه أي امتياز في حياته الخاصة، ولذلك قصد إلى كسب قوت يومه، حيث اشتغل الشاب الجزائري في مصنع "رونو" لصناعة السيارات ببلدة "بولون بيلانكور" بضواحي العاصمة باريس، وانضم بالموازاة مع ذلك للنادي الذي كان يملكه صاحب المصنع، "أولمبي بيلانكور"، حيث واصل ممارسة رياضته المفضلة والتحضير لأولمبياد أمستردام 1928.
وفاز الوافي باللقب الفرنسي لسباق الماراثون في اليوم الثامن من شهر يوليو/تموز 1928، فتم اختياره رفقة عداءين اثنين آخرين لتمثيل فرنسا في نفس الاختصاص للألعاب الأولمبية التي أجريت شهراً واحداً من بعد، بالعاصمة الهولندية أمستردام.
لم يكن مرشحاً وفاجأ النقاد في أولمبياد أمستردام 1928
وخلال أولمبياد أمستردام لم يكن أي واحد من النقاد يُرشح بوقرة الوافي للتتويج بلقب سباق الماراثون، فهذا السباق الشاق والطويل الذي تبلغ مسافته 42 كلم و195 متراً، كان اختصاصاً يابانياً وفنلندياً بامتياز، في حين أنّ الفرنسيين لم يكونوا متميزين في سباق يتطلب النفس الطويل، ولكن ما لم يعلمه نفس النقاد أنّ الوافي لم يكن فرنسي الأصل، بل عربي وُلد ونشأ في بيئة صحراوية قاسية ويكسب معيشته في فرنسا بمشقة وتعب كبيرين، وأنه أصبح أفضل بكثير من ذلك العداء المغمور الذي شارك قبل 4 سنوات في أولمبياد باريس 1924.
وبدأ الوافي ماراثون أولمبياد أمستردام ببطء وبحذر، فكان متواجداً بعد ركض مسافة 10 كيلومترات في المركز الـ20 من بين 69 مشاركاً، بفارق دقيقتين و20 ثانية عن كوكبة المتصدرين ثم تقدم شيئاً فشياً ليصبح في المرتبة السابعة بعد قطع نصف مسافة السباق، أي في الكيلومتر الـ21، ثم في المركز الثالث في الكيلومتر الـ32، وراء كلٍّ من الأمريكي جوي راي والياباني كانيرماتسو يامادا، اللذين تجاوزهما قبل نهاية السباق بـ5 كيلومترات، فانطلق منفرداً نحو الإنجاز الأوليمبي الكبير، فاحتل المركز الأول بمدة ساعتين و32 دقيقة و57 ثانية، متفوقاً بفارق 26 ثانية عن صاحب المركز الثاني التشيلي مانويل بلازا وبفارق أكثر من دقيقتين عن الثالث، الفنلندي مارتي مارتيلين.
انضم لفرقة سيرك أمريكية وأجرى سباقات مع الحيوانات!
التتويج باللقب الأولمبي، في وقتنا الحالي، يفتح أمام صاحبه أبواب الشهرة والمجد، لكن بالنسبة لحالة بوقرة الوافي، فإنّ العكس هو الذي حدث، فلم يتم استقبال البطل من طرف أي مسؤول فرنسي لتهنئته وتكريمه ولم تمنح له لا مكافأة مالية ولا معنوية، فلربما كان يُنظر إليه كمواطن من الدرجة الثانية وواحد من أهالي المستعمرات لا تربطه بفرنسا سوى الراية التي دافع عنها خلال الحرب العالمية الأولى ثم في الألعاب الأولمبية.
فكان من المنطقي جداً أن يفكر الوافي في نفسه وفي مستقبله بعد التهميش الذي وجده لدى السلطات الرياضية والسياسية الفرنسية، بحيث لم يتردد في قبول العرض الذي تلقاه من وراء المحيط الأطلنطي وبالضبط من الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك للمشاركة في سباقات خاصة بالمحترفين، فتحصل على مبلغ 4 آلاف دولار الذي كان يمثل قيمة الجائزة الممنوحة للفائز بسباق جرى يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول بقاعة "ماديسون سكوار غاردن" الشهيرة بمدينة نيويورك الأمريكية، وجمع بين عدائين نجوم في ذلك الوقت كبوقرة الوافي والأمريكي جوي راي بالإضافة لنجوم سابقين على غرار البريطاني أرثور نيوتن والفنلندي ويليام كولهماينن والإستوني يوري لوسمان.
وبعد ذلك انضم بوقرة الوافي لفرقة سيرك أمريكية حيث شارك في سلسلة من العروض الفنية بمختلف مدن الولايات المتحدة، كما خاض سباقات غريبة لمدة 6 أشهر بين سنتي 1929 و1930، نافس خلالها رجالاً مثله بالإضافة إلى حيوانات مختلفة.
بعد التألق.. حياة البؤس والشقاء
وبعد عودته إلى باريس في أواخر سنة 1930 منعه الاتحاد الفرنسي لألعاب القوى من ممارسة رياضته المفضلة بحجة "احترافه بأمريكا" لأنّ قوانين اللجنة الأولمبية الفرنسية كانت تحظر تسابق الرياضيين من أجل المال.
تجرع الوافي بصعوبة قرار إقصائه من الحركة الرياضية الفرنسية فقرر الاتجاه للعمل الحر، واشترى بفضل المال الذي كسبه في أمريكا مقهى بباريس بالشراكة مع شخص آخر، ولكن بسبب طيبته و"سذاجته" استولى شريكه لاحقاً على كل المقهى، فأصبح البطل الأولمبي السابق بدون أي مدخول مادي قبل أن يجد عملاً كدهّان للسيارات.
ولم تتوقف مآسي الوافي عند هذا الحد، بحيث تعرض لحادث دهس من طرف حافلة نقل، سبب له عاهة مستديمة، منعته من العمل مجدداً، فعاش في بؤس وفقر مدقع إلى أن وجد الرعاية من طرف عائلة شقيقته ببلدة "ستانس" بضواحي باريس، ثم دخل البطل الأولمبي الجديد لسباق المارثون لعام 1956، الفرنسي من أصل جزائري، علي ميمون، الذي دعاه لحضور حفل التكريم الذي خصه به رئيس الجمهورية الفرنسية في ذلك الوقت، رينيه كوتي، فساعد الرئيس البطل السابق بوقرة الوافي في إيجاد منصب شغل جديد كحارس لأحد الملاعب الرياضية بضواحي باريس.
وفاة بالرصاص
لكن حياة الهدوء والسكينة التي وجدها الوافي في خريف عمره لم تدم طويلاً بحيث توفي مقتولاً بالرصاص عن عمر 61 سنة يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول 1959، في شقة ببلدة سان دونييه، بضواحي باريس، وذلك في حادثة اختلفت حولها الكثير من الروايات، ولكن أقربها للحقيقة هي خلاف عائلي حول الميراث كان فيها ابن أخيه أحد أطرافها، انتهت بمقتل 3 أشخاص وكان من بينهم البطل الأولمبي السابق بوقرة الوافي.
وكما يقول المثل الشعبي الجزائري "في حياته كان مشتاق ثمرة.. وفي وفاته علقولُه عرجون"؛ فإنّ اللجنة الأولمبية الفرنسية هي من تكفلت بمراسم دفن بوقرة الوافي بمقبرة المسلمين بـ"بوبينييه" في سان دوني، وهي نفس اللجنة التي أقصته مدى الحياة من ممارسة الرياضة في عام 1930 بحجة "الاحتراف".
أنقر هنا لقراءة المقال من مصدره.