دأبت الحكومات الفرنسية على التعامل مع المغرب كمجالها الحيوي الذي، بحكم وضعية الاستعمار التي خضع لها، تريده أن يبقى حديقتها الخلفية التي لا تنافسها فيها أي جهة دولية أو قوة اقتصادية أخرى، رغم حصول المغرب على استقلاله حرصت فرنسا على التصدي لكل محاولات فك روابط التبعية الاقتصادية والثقافية لها. ذلك أن العلاقات الاستراتيجية التي تربط المغرب بفرنسا لا تسمح لهذه الأخيرة أن تظل تتعامل معه كمستعمرة حديثة الاستقلال بحاجة إلى مساعدة أو توجيه لإدارة شؤون الدولة.
عقيدة الاستعمار هذه لم تتحرر منها الطبقة السياسية الفرنسية لإعادة بناء علاقات متوازنة مع كل مستعمراتها السابقة. فاليمين واليسار والوسط الفرنسي المتداولون على قصر الإليزيه يحافظون على نفس مرتكزات السياسة الخارجية تجاه الدول التي خضعت للاستعمار الفرنسي. لهذا تحرص الحكومات الفرنسية على مواصلة التحكم في القرار السياسي لتلك الدول عبر أساليب الضغط والابتزاز التي تتيحها القضايا الشائكة القابلة للانفجار، أكانت إثنية داخلية أو مرتبطة بالحدود التي رسمها الاستعمار.
تأبيد تلك القضايا/النزاعات يضمن لفرنسا مواصلة استغلال موارد المستعمرات السابقة. من هنا نفهم تأرجح العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا بين التوتر والجمود والتعاون. إذ لم تكن يوما قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية في المستعمرات السابقة من أولويات الحكومات الفرنسية، بقدر ما كان يهمّها تكريس التبعية وضمان المصالح المادية والإستراتيجية.
فرنسا، كبقية الدول الاستعمارية، دعمت الديكتاتورية في كثير من دول العالم، ضمنها إفريقيا، لكن حين تقتضي مصالحها استعمال ورقة حقوق الإنسان لتوسيع مجال الاستغلال والنهب، فإنها تنصب نفسها المدافع الشرس عنها.
لم تكن فرنسا تتوقع من المغرب أن يغير قواعد ديبلوماسيته من الدفاع إلى الهجوم فيقف ندا للند، خاصة مع الدول الأوربية. هذه الأخيرة جعلت من الصراع المفتعل حول الأقاليم الصحراوية وسيلة لابتزاز المغرب ونهب ثرواته البحرية والفلاحية بأسعار متدنية) اتفاقية الصيد البحري التي تم تجديدها في 2019 تسمح لـ 128 سفينة أوروبية من الصيد في المياه المغربية لمدة أربعة أعوام، مقابل 52,2 مليون يورو يمنحها الاتحاد الأوروبي سنويا للمغرب). وكلما أوشكت الاتفاقية على النهاية أو طمعت دول الاتحاد في المزيد إلا وحركت أوراق الابتزاز منها:
1 ـ استعمال القضاء في إصدار أحكام تلغي الاتفاقيات التجارية والفلاحية مع المغرب (آخر تلك الأحكام صدرت في شتنبر 2021 ألغت اتفاقية الصيد البحري والاتفاق الفلاحي لكونها تشمل الأقاليم الجنوبية للمملكة). وليست المرة الأولى التي يتم استعمال القضاء لابتزاز المغرب، ففي دجنبر 2015 أصدرت محكمة العدل الأوربية حكما يقضي بإلغاء اتفاقية تبادل المنتجات الزراعية والصيد البحري بين الجانبين، لتضمنها منتجات الصحراء المغربية. لم يكن، حينها، أمام المغرب غير استئناف الحكم وإجراء مفاوضات تنتهي لصالح الاتحاد الأوربي الذي لا يكف عن لي ذراعه.
2 ـ استعمال ورقة حقوق الإنسان على عدة أوجه أو مستويات، سواء تعلق الأمر بإيواء انقلابيين ضد النظام وتحريكهم عند الحاجة، أو دفع الانفصاليين إلى المطالبة بتوسيع اختصاصات المينورسو لتشمل حقوق الإنسان في الأقاليم الصحراوية، مما يضطر المغرب إلى الخضوع للابتزاز بعد أن تظهر فرنسا كدولة حامية لمصالحه ومدافعة عنها. كما تجرأت فرنسا على تقديم استدعاء إلى السيد عبد اللطيف الحموشي، رئيس مديرية مراقبة التراب الوطني، للمثول أمام القضاء بعد اتهامه بـ "بالتواطؤ في التعذيب" في قضية أحد تجار المخدرات.
3 ـ استعمال قضية الصحراء كأقوى ورقة ضغط لابتزاز المغرب اعتبارا للعضوية الدائمة لفرنسا بمجلس الأمن والصلاحيات التي تتوفر لديها (المشاركة في صياغة القرار الأممي، الحق في استعمال الفيتو). فعلى مدى أربعة عقود ظلت فرنسا على نهج هذا الابتزاز. وكان آخرها فوزها بصفقة القطار فائق السرعة بين طنجة والدار البيضاء.
ظلت فرنسا وإسبانيا، لاعتبارات تاريخية، الدولتين الأكثر ابتزازا للمغرب عبر تكامل أدوارهما (إسبانيا تكوي وفرنسا تبخ) أي أن إسبانيا تحرض البوليساريو على تقديم دعاوى ومطالب ضد المغرب، فيما فرنسا تمثل دور الحليف الحامي من أي قرار أممي يهدد مصالح المغرب. هكذا استمرت اللعبة ولم يُرد لها أن تنتهي حتى أتى القرار التاريخي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب القاضي باعتراف الولايات الأمريكية المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء.
قرار قلب موازين القوة وحرر المغرب من القبضة الفرنسية- الإسبانية. لم تستسغ الدولتان ذلك القرار ولم تنجحا في الضغط على أمريكا للتراجع عنه، خصوصا مع تولي جو بايدن الرئاسة. كان المغرب بحاجة ماسة إلى المبادرة الأمريكية التي وفرت له ما يكفي من الحماية والدعم والوسائل للتعامل ندا للند مع دول الابتزاز.
وإذا كانت إسبانيا وقبلها ألمانيا استوعبتا الوضع الجديد الذي صار عليه المغرب بعد اتفاقية أبراهام فغيّرتا موقفهما من الصراع حول الصحراء وذلك بالدعم الصريح لمقترح الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب سنة 2007، فإن فرنسا لم تستفد من الدرس كما لم تفهم الخطاب الملكي في ذكرى المسيرة الخضراء 2021، والذي شدد على معيار مغادرة "المنطقة الرمادية" لإقامة الشراكات الاقتصادية والتجارية مع الدول(نقول لأصحاب المواقف الغامضة أو المزدوجة، بأن المغرب لن يقوم معهم، بأي خطوة اقتصادية أو تجارية، لا تشمل الصحراء المغربية)؛ وهو نفس الموقف الذي عبر عنه جلالته في ذكرى ثورة الملك والشعب، 20 غشت 2022( ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات).
لا زالت فرنسا لم تستوعب بعد التغيرات الجدرية في مواقف المغرب، ولم تدرك مغزى عبارة السيد بوريطة، وزير الخارجية المغربي، بأن "مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس"، فظلت تعتقد أن نهج الابتزاز الذي اعتادت عليه عقودا سيظل مجديا في جعل المغرب يخضع لها. لقد تغير الوضع وآن لفرنسا أن تقبل التعامل الندي للمغرب وتبحث عن فرص الارتقاء بعلاقاتها الاستراتيجية معه.
وأي تأخر أو مناورات مكشوفة ستنقلب آثارها على فرنسا فتخسر أكثر مما تربح. ولتعلم فرنسا أن مجال مناوراتها بات جد محدود؛ فهي لن تجازف بالعلاقات التاريخية والإستراتيجية مع المغرب فتخسره كما بدأت تخسر مواقعها في بعض الدول الإفريقية بسبب عقيدة الاستعمار التي لم تتخلص منها، خاصة في مالي وبوركينافاسو وتشاد.
فالمغرب ماضٍ في إستراتيجية بناء قوته الإقليمية وتنويع شراكاته الدولية حتى لا يكون رهينة بيد أي جهة. بل إن المغرب لديه فرصا كثيرا لتعويض العلاقات مع فرنسا؛ ومن ثم فإن هذه الأخيرة بحاجة إلى المغرب أكثر مما هو بحاجة إليها. ذلك أن فرص الاستثمار، سواء في المغرب أو في إفريقيا، التي تسعى ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين ثم روسيا إلى الظفر بها عبر الشراكة معه، لا يمكنها انتظار تردد فرنسا ولعبها على الحبال بين الدول المغاربية.
فقد حسم المغرب أمره لما أعلن جلالته في 2 نونبر2021 “بالنسبة للمغرب، فإن صحراءه غير قابلة للتفاوض”. من هنا فإن اللعب بورقة التأشيرات لن يولّد إلا مزيدا من التذمر والسخط في نفوس الشعب المغربي تجاه فرنسا واللغة الفرنسية، ويدفع المغرب إلى مراجعة علاقاته معها وفق ما تقتضيه الأوضاع. إن المغرب لا يفرط في علاقاته التاريخية لكنه لن يتخل عن مصالحه الاستراتيجية.