لا يمكن اليوم أن نحجب حقيقة الوضع الذي يعيشه المغرب في محيطه الإقليمي والدولي فالمتتبع المغربي يفهم أن بلدنا يعيش معارك دبلوماسية لا تتوقف ضد خصوم وحدته الترابية، وضد الواقفين في وجه مصالحه وسيادته، فبداية بألمانيا وإسبانيا اللتان عرفت علاقتهما بالمغرب توثرا انتهى لصالحه بفضل اتزان خطابه وحنكة ديبلوماسيته وخبرته التي راكمها خلال تاريخ طويل من العلاقات الدولية، وانتهاءً بالموقف الغريب للرئيس التونسي قيس سعيد واستقباله لابراهيم غالي خلال قمة تيكاد ضدا على مصالح المغرب وضدا على إرادة اليابان ورؤيتها لعلاقتها بإفريقيا التي عبرت عنها تواليا خلال قمم سابقة رافضةً الاعتراف بأي تنظيم انفصالي إرهابي.
هكذا وجد المغرب نفسه في محيط لا يقدّر يده الممدودة دائماً، ولا يرى في مساره الصاعد فرصة للانخراط في دينامية إقليمية لا شك أنها ستعود بالنفع على الجميع، دولاً وشعوباً، والحقيقة أننا هنا لسنا بصدد الدخول في عملية نقدية أو تقييمية لمواقف الجزائر أو تونس أو موريتانيا لأننا نعتبرها مواقف لا تنم عن سيادة كاملة لهاته الدول، بل هي تصريف لرؤى وخطط استراتيجية لقوى دولية لم يعد يقبلها المغرب، إذ إنها تنطلق من نظرة فوقية لا تمثل النموذج الجيد للشراكات الجادة التي يتبادل الأطراف فيها المصالح المشتركة دون المساس بها ولا الوقوف ضدها، وقد عبر عن ذلك صاحب الجلالة الملك محمد السادس في مناسبات عدة و بصراحة كما في خطابه الأخير، إذ ربط جودة علاقة المغرب بشركائه وحلفائه بمواقف هؤلاء الحلفاء والشركاء من قضيتنا الوطنية، فلا شراكة مع من يرى في تقسيم المغرب "تقريراً للمصير" ولا صداقة مع من يعادي المغرب، داعيا الدول التي لازالت تتبنى مواقف غير واضحة، وعلى رأسها فرنسا إلى تبني موقف واضح إزاء وحدتنا الترابية.
إن تصريف هاته المواقف من طرف تونس والجزائر لا يمكن أن ينفصل إطلاقا عن مضمون خطاب الملك الأخير الذي مرر فيه رسائل قوية للمنتظم الدولي والاتحاد الأوروبي وفرنسا على وجه الخصوص، إذ إنه جاء في سياق صعّدت فيه فرنسا من حملاتها الصامتة ضد المغرب التي تجاوزت الإعلام والتصريحات إلى الضرب المباشر ومحاولة الاغتيال المعنوي للرموز الوطنية وهدم التقدير الذي يكنه الشعب المغربي لملكه والذي به تتقوى المواقف الدبلوماسية للمغرب وبه تتعزز شخصيتنا كمملكة لها تاريخ وارتباط قوي بين الشعب والعرش.
والحاصل أن فرنسا منذ مدة ليست بالقصيرة تحاول أن تفرض نمطا معينا من العمل مع المغرب، كما تحاول توجيه رؤاه الاستثمارية وخططه التنموية بما يحافظ عليها كشريك أول ووحيد للمغرب، وهذا حق مشروع لدولة كفرنسا يتفهمه أي ملم بأبجديات السياسة الدولية، لأن كل دولة لها حقها الكامل في الدفاع على مصالحها الاقتصادية ونفوذها عبر العالم، لكن فكما لفرنسا الحق في ذلك فإن المغرب أيضا له هذا الحق، ذلك أن المغرب اليوم لم يعد يقبل الشراكات التي يغيب فيها الربح المتبادل وتحضر فيها ضبابية المواقف إزاء القضية الوطنية.
لقد خلقت المواقف الثابتة الجديدة للملكة المغربية ارتباكا في العلاقة مع فرنسا لتجعل منها دولة تقوم بكل ما تستطيع من أجل إعادة المغرب إلى الوضع القديم في خارطة شركائها، حتى بلغ الأمر إلى درجة منعت معها فرنسا المواطنين المغاربة من دخول التراب الفرنسي من خلال تعطيل السير العادي لمنح التأشيرات ما عرقل الحركة الطبيعية لتنقل المواطنين المغاربة نحو فرنسا وأوروبا في وضع غير مألوف يعيد إلى الواجهة ضرورة الدفع في اتجاه تنزيل سياسات يتم بناء عليها التعامل مع الشعب المغربي والفرنسي على قدم المساواة، ويتم من خلالها تسهيل ولوج المواطنين المغاربة للتراب الفرنسي بالضبط كما يتم تسهيل ذلك للمواطن الفرنسي عند ولوجه للمغرب في إطار من الاحترام والتقدير المتبادلين.
ومن يرى أن العلاقات مع فرنسا طبيعية في ظل غياب تصريحات رسمية ترسّم الأزمة وتعطيها إطارا رسميا، فإننا نقول له أنه ليس من الصدفة أبداً أن يزور ماكرون الجزائر وأن يتواجد في شمال إفريقيا ويبرم الصفقات مع الجزائر في نفس الفترة التي يصدر فيها موقف غريب وناشز من دولة كتونس، وليس من المصادفة أبداً أن تعيد فرنسا وضع قبول طلبات الفيزا للمواطنين التونسيين في نفس الأسبوع الذي استقبل فيه إبراهيم غالي، وليس من المصادفة إطلاقا أن يحصل كل هذا وسط صمت فرنسا الرسمي، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا ينبغي أن نركز جهودنا في لوم فرنسا اليوم على اتخاد مواقف لا تتوافق مع مصالح المغرب، بل إن كل ما نحتاجه اليوم هو التفاف كل القوى المغربية الحية من أجل إعادة علاقة المغرب بفرنسا إلى إطارها الطبيعي تماما كما عادت العلاقات مع ألمانيا وإسبانيا والدفع بالتوجه الفرنسي في اتجاه الاعتراف التام والواضح بسيادة المغرب على أراضيه وتثبيت موقفه بشكل لا رجعة فيه، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا ببناء إجماع وطني راسخ حول القضايا الوطنية العليا وبناء جو من الثقة في خطنا الدبلوماسي، ثقة قوامها الدعم المستميت والنقد البناء.
إن الإجماع الوطني على ضرورة مساندة الخط الدبلوماسي الوطني في هذا التوجه الجديد الذي رسمه لنفسه لا يمكن أن يتحقق بسهولة، فما يزعج حقيقة وسط كل هذا التدافع الذي وجد المغرب نفسه طرفا فيه، والذي سيخرج منه منتصرا بكل تأكيد، هو الصمت المطبق الذي تتقنه الأذرع الثقافية والسياسية الفرنكوفونية المغربية، والتي تعيش في المغرب وتتنفع من خيراته، بل وتقتات على علاقتها بالسلطة والرموز الوطنية وعلى الرغم من ذلك فهي لا تمتلك الشجاعة الكافية للعمل من أجل تقريب موقف فرنسا من الموقف الرسمي المغربي تجاه القضية الوطنية كما لا تبذل أي مجهود للضغط في كل مرة تتأثر العلاقات المغربية الفرنسية أو العمل على الترافع من أجل القضايا الوطنية السيادية الحقيقية في الوقت الذي تكتفي فيه بالنضال على الهامش من أجل القضايا التي تخدم مصالحهم الخاصة أو مصالح الهيئات التي ينتمون إليها، و من أجل توسل التأشيرات والامتيازات، أو تكتفي بالضرب في الجزائر وتونس بلا أي موقف مباشر من كل أخطاء فرنسا يمكن أن يعيدها إلى إطار البلد الصديق، صداقة متكافئة المصالح والمنافع.
إن هؤلاء الفاعلين والجمعويين والمثقفين والسياسيين الذين لا يتوانون عن التعبير عن "اعتزازهم" بانتمائهم لدائرة الفرنكوفونية مدعوون اليوم للدفاع الحقيقي عن مصالح المغرب والضغط من أجل إذابة كل حاجز يقف في وجهها، لأن الصمت عن ذلك يسمى خيانة واصطفافا ضد الوطن، ولا يمكن إلا أن نستحضر في هذا الصدد قولة الملك المشهورة في إحدى خطاباته:
"فإما أن يكون المواطن مغربيا أو لا يكون وقد انتهى وقت ازدواجية المواقف والتملص من الواجب ودقت ساعة الوضوح وتحمل الأمانة، فإما أن يكون الشخص وطنيا أو خائنا إذ لا توجد منزلة وسطى بين الوطنية والخيانة، ولا مجال للتمتع بحقوق المواطنة والتنكر لها بالتآمر مع أعداء الوطن".
إن هاته الاضطرابات في علاقة المغرب بمحيطه، تثبت بجلاء تخوفا واضحا من دولة لا زالت تسعى لاستقلالها التام، وتثبت اختلاف المغرب عن بقية دول المحيط، اختلافٌ تقويه نجاحات المغرب المستمرة في دول افريقيا وتجاوزه لكل العراقيل التي تبطّئ مسار تنميته، وبالرغم من أن تأجيج الأزمات والفرح لها شيء لا ينبغي أن نفرح له ونسعى إليه، فإن تجنب ذلك أيضاً لا ينبغي أن يكون على حساب السيادة والتاريخ وكرامة المملكة، التي تسعى اليوم لخلق نموذج آخر من العلاقة مع فرنسا، نموذج قوامه الانفتاح على الآخر والاحترام المتبادل المستند إلى روابط متينة تقويها المؤسسات والهيئات من البلدين، لأن الانفتاح على خلق جسور الحوار والعمل المشترك هو قيمة لا يمكن إلا أن نسعى إليها، لكن دون أن تخلق لنا نموذجا من النخب يدافع على مصالح الشركاء ضد مصالح المغرب .أو يصمت حين ترتكب الأخطاء الواضحة ضد المغرب.